فصل: تفسير الآية رقم (158)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏144- 147‏]‏

‏{‏قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏144‏)‏ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏145‏)‏ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏146‏)‏ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ التقلب‏:‏ التردد، وولَّيْت كذا‏:‏ جعلته والياً له، والشَّطْر هنا‏:‏ الجهة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله لنبيه- عليه الصلاة والسلام- حين تمنى أن يُحَول إلى الكعبة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم وأدْعى إلى إسلام العرب، وهي أقدم القبلتين، فكان ينظر إلى السماء، ويقلب وجه فيها انتظاراً لنزول الوحْي، وهذا من كمال أدبه- عليه الصلاة والسلام- حيث انتظر ولم يطلب، فقال له الحق تعالى‏:‏ ‏{‏قد نرى‏}‏ أي‏:‏ ربما نرى تردد ‏{‏وجهك في السماء‏}‏ انتظاراً للوحي، فلنعطينك ما تمنيت، ونوجهك إلى قبلة ‏{‏ترضاها‏}‏ وتحبها لمقاصد دينية وافقت المشيئة، واقتضتها الحكمة، ‏{‏فولِّ وجهك‏}‏ أي‏:‏ اجعله موالياً ‏{‏شطر‏}‏ أي‏:‏ جهة ‏{‏المسجد الحرام وحيثما كنتم‏}‏ أيها المؤمنون أي في أي مكان كنتم ‏{‏فولوا وجوهكم شطره‏}‏ جهته‏.‏

وإنما ذكر الحق تعالى شطر المسجد، أي‏:‏ جهته، دون عين الكعبة، لأنه- عليه الصلاة والسلام- كان في المدينة، والبعيد يكفيه مراعاة الجهة، فإن استقبال عينها حَرجٌ عليه، بخلاف القريب، فإنه يسهل عليه مسامته العين‏.‏ وقيل‏:‏ إن جبريل- عليه السلام- عيّنها له بالوحي فسميت قبلة وحْي‏.‏

رُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً، ثم وُجِّه إلى الكعبة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين، وقد صلّى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر، فتحوّل في الصلاة، واستقبل الميزاب، وتبادل الرجال والنساء صفوفهم، فسُمي مسجد القبلتين‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ في الآية إشارة إلى أن ترك التصريح من كمال الأدب، وفي الحكم‏:‏ «ربما دلّهم الأدب على ترك الطلب، كيف يكون دعاؤك اللاحق سبباً في قضائه السابق‏؟‏‏!‏ جلّ حكم الأزل أن يضاف إلى العلل»‏.‏ فإذا تمنيت شيئاً وتوقفت على أمر فاصبر وتأدب واقتد بنبيك- عليه الصلاة والسلام- حتى يعطيك ما ترضى، أو يعوضك منها مقام الرضا‏.‏ وفي المسألة كلام، والتحقيق أن ينظر إلى ما ينشرح به صدره في الوقت، فإن انشرح للدعاء دعا، وإن انقبض عن الدعاء سكت‏.‏ والله يرزق من يشاء بغير حساب ولا علّة ولا أسباب‏.‏

وإن شئت قلت‏:‏ قد نرى فكرتك أيها العارف في سماء المعاني، غائباً في شهود الأواني، فلنولينك قبلة ترضاها، وتتلذذ بشهود جمالها وسناها، وهي الحضرة المطهرة التي هي صلاة القلوب، فولّ وجهك ووجهتك إلى تلك الحضرة، وحيثما كانت فولّ وجهك شطره، ودم على صلاة الفكرة والنظرة، فهي صلاة العارفين، ومنتهى امل القاصدين، وبالله التوفيق‏.‏

ولمّا تحوّلت القبلة إلى الكعبة غضبت اليهود، حيث ترك قبلتهم، مكابرة وعناداً، وقالوا‏:‏ لو بقي على قبلتنا لرجونا أن يكون هو النبيّ المبعوث في آخر الزمان فنتبعه، فردَّ الله عليهم وكذبهم فقال‏:‏

‏{‏وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏*‏)‏ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ولئن‏}‏ اللام موطِّئة للقسم، و‏{‏إن‏}‏ شريطة، و‏{‏أتيت‏}‏ فعل اشرط، و‏{‏ما تبعوا‏}‏ جواب القسم المحذوف سد مسد جواب الشرط‏.‏

قال في الألفية‏:‏

واحذِف لَدَى اجتماع شرطٍ وقسمْ *** جوابَ ما أَخَّرْتَ فَهْوَ مُلْتَزَمْ

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإن الذين أوتوا الكتاب‏}‏ من أحبار اليهود ‏{‏ليعلمون‏}‏ أن التحول إلى الكعبة حق ‏{‏من ربهم‏}‏ لِمَا يجدون في كتابهم أنه يصلي إلى القبلتين، وأن عادته تعالى تخصيص كل أمة بشريعة، ‏{‏وما الله بغافل عما يعملون‏}‏ من التعنت والعناد، وإنما يمهلهم ليوم المعاد، والله لئن أتيتهم بكل حجة وبرهان على صحة التوجه إلى الكعبة ‏{‏ما تبعوا قبلتك‏}‏؛ لأنهم ما تركوا قبلتك لشبهة تُزيلُها الحجة، وإنما خالفوك مكابرة وعناداً‏.‏ وقد طمعوا أن ترجع إلى قبلتهم، ولست ‏{‏بتابع قبلتهم‏}‏ أبداً، بل لهم قبلتهم؛ صخرة بيت المقدس، وللنصارى قبلتهم؛ مطلع الشمس، وليس بعضهم ‏{‏بتابع قبلة بعض‏}‏؛ لتصلب كل حزب بما هو فيه، وإن كان على خطأ وفساد؛ لأن مفارقة العوائد ن صعب على النفوس إلا من سبقت له العناية‏.‏

‏{‏ولئن اتبعت أهواءهم‏}‏ الباطلة وإراءهم الزائفة فَرْضاً وتقديراً ‏{‏من بعد ما جاءك من العلم‏}‏ الواضح والوحي الصحيح ‏{‏إنك إذاً لمن الظالمين‏}‏، لكنك معصوم، فلا يتصور اتباعك لهم أبداً‏.‏

‏{‏الدين آتيناهم الكتاب‏}‏ أي‏:‏ اليهود ‏{‏يعرفونه‏}‏ أي‏:‏ الرسول- عليه الصلاة والسلام- وإن لم يتقدم ذكره لدلالة الكلام عليه أو القرآن أو التحويل، ‏{‏كما يعرفون أبناءهم‏}‏ لا يشكُّون في صحة رسالته كما لايشكون في معرفة أبنائهم‏.‏ وعن عمر رضي الله عنه أنه سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏أنا أعلَمُ بِه مِنِّي بِابني، قال له‏:‏ ولِمَ‏؟‏ قال‏:‏ لأنِّي لستُ أشُكُّ في محمدٍ أنه نبيُّ الله‏.‏ وأمَا ولَدِي فلعلَّ والدتَهُ قدْ خَانَتْ‏)‏‏.‏

وبعد حصول هذه المعرفة لهم جحدوه وكتموا صفته، إلا من عصمة الله بالإيمان كعبد الله بن سلام وأصحابه- فقد كتم فريق منهم الحق وهم أحبارهم، وهم يعلمون أنه حق حسداً وعناداً‏.‏

هذا الذي أنت عليه يا محمد هو ‏{‏الحق من رَبِّك فلا تكونن من الممترين‏}‏ أي‏:‏ من الشاكين في أنه الحق، أو في كتمانهم الحق عالمين به‏.‏

والخطاب مصروف للسامعين لا للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه غير متوقع منه، وإنما المراد تحقيق الأمر، وإنه بحيث لا يشك فيه ناظر، أو أمر الأمة باكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الأبلغ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ مما جرت به سُنة الله تعالى في خلقه أن أهل الحقيقة منكورون عند أهل الشريعة، أو تقول‏:‏ علماء الباطن منكورون عند علماء الظاهر، يقابلونهم بالإذاية والإنكار، مع أنه يعلمون أن الحقيقة حق من ربهم، وأن علم الباطن حق لقوله- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ «إن من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه إلا العماء بالله، فإذا سمعه أهل الغرة بالله أنكروه عليهم» أو كما قال- عليه الصلاة والسلام-، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لِكلِّ آيةٍ ظَاهرٌ وبَاطِنٌ وحَدٍّ ومَطْلَع»‏.‏

‏{‏وما الله بغافل عما يعلمون‏}‏ فجزاؤهم الحرمان عن لذة الشهود والعيان، فيقال لأهل الباطل‏:‏ ولئن أتيتهم بكل آية وبرهان ما تبعوا وجهتك التي توجهت إليها؛ لأنها مَنُوطة بموت النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس، وخرق العوائد لاكتساب الفوائد، ومفارقة الأوطان والغيبة عن الأهل والولدان، وما أنت أيها المريد بتابع وجهتهم التي توجهوا إليها، ولئن اتبعت أهواءهم من بعدما ظهر لك من علم التحقيق‏:‏ إنك إذاً لمن الظالمين لنفوسهم‏.‏

الذين آتيناهم الكتاب من علماء الشريعة يعرفون علم الحقيقة، كما يعرفون أبناءهم، أي‏:‏ يقرون به في الجملة وينكرون وجود أهله مخصوصين، وقد يتحققون به ويكتمون الحق حسداً، وهم يعلمون وجود خصوصيته، فيقال للعارف‏:‏ هذا الذي أنت عليه من سلوك جادة الطريقة، وعلم التحقيق، هو الحق من ربك فلا تكونن من الممترين أنك على الحق المبين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏148- 150‏]‏

‏{‏وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏148‏)‏ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏149‏)‏ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏150‏)‏‏}‏

‏{‏وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فاستبقوا الخيرات أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعاً إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

قلت‏:‏ التنوين ‏{‏لكل‏}‏ تنوين العوض، أي ولكل أمة قبلة، أو لكل قوم من المسلمين جهة وجانب من الكعبة، و‏{‏وجهة‏}‏ مبتدأ، والخبر‏:‏ المجرور قبله‏.‏ و‏{‏هو‏}‏ مبتدأ، و‏{‏موليها‏}‏ خبر مقصور، و‏(‏ولّى‏)‏ يتعدى إلى مفعلوين، وهو هنا محذوف، أي‏:‏ موليها وجهه إن كان الضمير يعود على المضاف المحذوف، وهو هنا محذوف، أي‏:‏ موليها وجهه إن كان الضمير يعود على المضاف المحذوف، ويحتمل أن يعود على الله تعالى، أي‏:‏ الله تعالى موليها إياه، أي‏:‏ يجعلها موالية له إن استقبل جهتها‏.‏

وقرأ ابن عامر‏:‏ ‏{‏هو مُوَلاَّها‏}‏ بالبناء للمفعول، فالنائب ضمير يعود على ‏{‏هو‏}‏، وهو المفعول الأول، والثاني‏:‏ المضاف إليه تخفيفاً، وأصله‏:‏ مُلي إياها، أي مصروفاً إليها‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ولكل فريق من المسلمين جهة من الكعبة يستقبلها ويوليها وجهه، أينما كان وحيثما حل، فأكثروا من الصلوات، واستقبلوا الخيرات قبل هجوم هادم اللذات، ‏{‏أينما تكونوا‏}‏ في مشارق الأرض ومغاربها، يأتكم الممات، ويأت بكم إلى المحشر حُفاة عراة، ولا ينفعكم حنيئذٍ إلا صالح عمل قدمتوه، أو فعل خير أسلفتموه، ‏{‏إن الله على كل شيء قدير‏}‏، فلا يعجزه بعث العباد، ولا جمعهم من أعماق الأرض وأقطار البلاد‏.‏ وإذاعلمت أن لكل قوم جهة يستقبلونها، فمن ‏{‏حيث خرجت‏}‏ وفي أي مكان حللت ‏{‏فولّ وجهك شكر المسجد الحرام‏}‏، والله ‏{‏إنه للحق من ربك‏}‏ فبادر إلى امثاله، ‏{‏وما الله بغافل عما تعملون‏}‏ من خير أو شر، فيجازي كل واحد على ما أسلف‏.‏

ثم كرّر الحق تعالى الأمر بالتوجه إلى الكعبة لعلة أخرى سيذكرها، فقال‏:‏ ‏{‏ومن حيث خرجت فوّل وجهك شطر المسجد الحرام‏}‏ وحيثما حللتم ‏{‏فولّوا وجوهكم شطره‏}‏‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ كرر هذا الحكم لتعدد علله، فإنه تعالى ذكر للتحول ثلاث علل‏:‏ تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بابتغاء مرضاته، وَجَرت العادة الإلهية على أن يُولِّي أهل كل ملة وصاحب دعوة وجهة يستقبلها ويتميز بها، ودفع حجج المخالفين على ما بينه، وقرن كل علة بمعلولها، مع أن القبلة لها شأن، والنسخ من مظان الفتنة والشبهة، فبالحَرِيِّ أن يُؤكد أمرها ويعاد ذكرها مرة بعد أخرى‏.‏ ه‏.‏

ثم ذكر العلّة الثالثة وهي دفع الحجج المخالفين، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشوني وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏

قلت‏:‏ الاستثناء من ‏{‏الناس‏}‏ أي‏:‏ لئلا يكون لأحد من الناس حجة عليكم إلا المعاندين منهم، و‏{‏لأتم‏}‏ متعلق بمحذوف، أي‏:‏ ولإتمام نعمتي عليكم وإرادة اهتدائكم أمرتكم بالتحول، أو معطوف على محذوف؛ أي‏:‏ واخشوني لأحفظكم ولأتم نعمتي عليكم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ وإنما أمرتكم بالتوجه إلى الكعبة دون الخصرة لتدفع حجج الناس، فإن اليهود ربما قالوا‏:‏ المنعوت في التوراة قبلته الكعبة، وهذا يستقبل الصخرة، أو إن محمداً يخالف ديننا ويستقبل قبلتنا‏.‏ والمشركون ربما قالوا‏:‏ يدعي ملّة إبراهيم ويخالف قبلته، فأمرتكم باستقبال القبلة دفعاً لحجج الناس، إلا المعاندين منهم فلا ينقطع شغبهم، فإنهم يقولون‏:‏ ما تحول إلى الكعبة إلا مَيلاً إلى دين قومه، وحبّاً لبلده، أو بَدَا له فرجع إلى قبلة آبائه، ويوشك أن يرجع إلى دينهم‏.‏

فلا تخافوهم ولا تلتفتوا إلى مَطاعنهم، فإنها لا تضركم، ‏{‏واخشوني‏}‏ أكْفكم شرهم، فإن مَن خافني خاف منه كل شيء، ومَن لم يخشني خاف من كل شيء، وأمرتكم أيضاً بالتوجه إلى قبلة جدكم ‏{‏لأتم نعمتي عليكم‏}‏ بإقرار عين نبيكم، وإرادة اهتدائكم، فاشروا ما أوليتكم، واذكروا ما به أنعمت عليكم أزدكم من فضلي وإحساني، وأسبغ عليكم إنعامي وامتناني‏.‏

الإشارة‏:‏ من حكمة المدبر الحكيم أن دبر ملكه العظيم، ووجه كل فرقة بوجهه من مصالح عباده، أفناه فيها وولاه إياها‏.‏ فقوم اختصهم لمحبته واصطفاهم لحضرته؛ وهم العارفون، وقوم أقامهم لخدمته وأفناهم في عبادته؛ وهم العباد والزهاد، وقوم أقامهم حمل شريعته وتمهيد دينه؛ وهم العلماء العاملون، وقم أقامهم لحفظ كتابه رسماً وتلاوة وتفهماً؛ وهم القرّاء والمفسرون، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏ ‏[‏الحِجر‏:‏ 9‏]‏، وقوم أقامهم لتسكين الفتن ودفع المظالم والمحن؛ وهم الحكام ومَن يستعان بهم في تلك الوجهة، وقوم أقامهم لحفظ نظام الحكمة؛ وهم القائمون بالأسباب الشرعية على اختلاف أنواعها وتعدد فروعها، وقوم أعدهم لظهور حلمه وعفوه فيهم؛ وهم أهل المعاصي والذنوب، وقم أعدم للانتقام وظهور اسمه القهار؛ وهم أنواع الكفار‏.‏

فكل وجهة من هؤلاء توجهت لحق شرعي أقامتها القدرة فيه، وحَكم بها القضاء والقدر، إلا أن القسمين الأخيرين لا تقررهما الشريعة‏.‏ فلو حسنت المقاصد لكان الكل عُمالاً لله، فيقال لهم‏:‏ ‏{‏استبقوا الخيرات‏}‏ بتحسين المقاصد والنيات، وبادروا إلى الطاعات قبل هجوم هادم اللذات، أينما تكونوا يجمعكم للحساب، وتُعاينوا جزاء ما أسلفتم من عذاب أو ثواب، ومن حيث خرجت أيها العارف فولِّ جهتك وكليتك لمسجد الحضرة باستعمال الفكرة والنظرة، فإنها حق وما سواها باطل، كما قال الشاعر‏:‏

ألا كُلُّ شيء مَا خَلاَ اللّهَ باطلُ *** وكُلُّ نَعِيمٍ لاَ مَحَالَةَ زائلُ

وحيثما كنتم أيها العارفون فولّوا وجوهكم إلى قبلة تلك الحضرة، واعبدوا ربكم بعبادة الفكرة، فإنها صلاة القلوب، ومفتاح ميادين الغيوب، وفي ذلك يقول القائل‏:‏

يَا قِبْلَتِي في صَلاَتِي *** إذَا وقَفْتُ أصَلِّي

جَمَالُكم نُصْبَ عَيْنِي *** إليهِ وَجَّهْتُ كُلِّي

فإذا تحققتم بهذه الحضرة، وتحصنتم بحصن الشهود والنظرة، انقطع عنكم حجج خصيم النفس والجنس، وتنزهتم في رياض القرب والأنس، إلا الخواطر التي تحوم على القلوب، فلا تقدح في مشاهدة الغيوب، فلا تخافوا غيري، ولا تتوجه همتكم إلا لإحساني وبرَّي؛ فإني أتم عليكم نعمتي، وأرشدكم إلى كمال معرفتي، وأتحفكم بنصري ومعونتي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏151- 152‏]‏

‏{‏كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ‏(‏151‏)‏ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ‏(‏152‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏كما‏}‏ متعلق بأتم، أي‏:‏ ولأتم نعمتي عليكم في شأن القبلة كما أتممتها عليكم بإرسال الرسول‏.‏ أو باذكروني، أي‏:‏ كما ذكرناكم بالإرسال، فاذكروني بالمقال والحال‏.‏ وقدم هنا التزكية على التعليم، باعتبار القصد؛ لأن القصد من الإرسال والتعليم هو التطهير، وأخره في دعوة إبراهيم باعتبار الفعل، لأن الإرسال والتعليم مقدم على التطهير، وأعاد العامل في قوله‏:‏ ‏{‏ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون‏}‏ إيذاناً بأنه جنس آخر شرفاً له‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله يا عبادي اذكروا برّي وإحساني، فقد أتممت عليكم نعمتي وآلائي بإسعافكم في تحويل القبلة، كما أتممتها عليكم بأعظم النعم وأجلها، وهو إرسال من يعلمكم ‏{‏رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا‏}‏ الموصلة إلى حضرتنا، ويطهركم من المساوئ والعيوب، ‏{‏ويعلمكم الكتاب‏}‏ المشتمل على علم الغيوب ودواء القلوب، ويعلمكم ‏{‏الحكمة‏}‏ وهي الشريعة المطهرة والسنّة النبوية، ‏{‏ويعلمكم‏}‏ علوماً غيبية لم يكن لكم بها علم ولا معرفة، ‏{‏فاذكروني‏}‏ بالطاعة والإحسان ‏{‏أذكركم‏}‏ بالثواب ونعيم الجنان‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَن أطَاعَ الله فقدْ ذكَرَ الله، وإنْ قَلَّتْ صَلاتُه وصيَامُهُ وتِلاوتُه القرآن‏.‏ ومَنْ عَصيَ اللّهَ فَقَدْ نَسِيَ الله، وإنْ كَثُرتْ صَلاتُهُ وصَيَامُهُ وتِلاوَتُه»‏.‏

أو فاذكروني بالجَنَانِ أذكركم بنعمة الشهود والعيان، أو فاذكروني بالقلوب أذكركم بكشف الحجب، أو فاذكروني بالتوحيد والإيمان أذكركم بالدرجات في الجنان‏.‏ قال الصِّديق رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏كفَى بالتوحيدِ عبَادةً، وكَفَى بالجنةِ ثَواباً‏)‏‏.‏ أو فاذكروني بالشكر أذكركم بالزيادة، أو فاذكروني على ظهر الأرض أذكركم في بطنها‏:‏ قال الأصمعي‏:‏ ‏(‏رأيت أعرابيّاً واقفاً يوم عرفة بعرفات، وهو يقول‏:‏ إلهي عَجَّتْ لكَ الأصْواتُ بضُروب اللغات يسألونك الحَاجَات، وحاجَتي إليكَ أنْ تَذْكُرني عندَ البلاَءِ إذا نَسِيَني أهلُ الدنيا‏)‏‏.‏

أو‏:‏ فاذكروني في الدنيا أذكركم في العقبى، أو‏:‏ فاذكروني بالطاعات أذكركم بالمعافاة، يعني يحييه حياة طيبة‏.‏ أو‏:‏ فاذكروني في الخلاء والملأ أذكركم في أفضل الملأ، دليله الحديث‏:‏ «أنا عِندَ ظنَّ بي فليُظنَّ بي مَا شاء، وأنا معه إذا ذكَرني، فمن ذَكَرَنيِ في نَفْسِه ذَكَرْتُه في نَفْسِي‏.‏ ومن ذَكَرَنِي في مَلأ ذَكرْتُه في مَلأ خير من مَلَئِهِ‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏

أو‏:‏ فاذكروني في النعمة والرخاء أذكركم في الشدة والبلاء، أو‏:‏ فاذكروني بالتسليم والرضا أذكركم بحسن التدبير ولطف القضاء، ‏{‏وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ‏}‏ ‏[‏الطّلاَق‏:‏ 3‏]‏ أو‏:‏ فاذكروني بالشوق والمحبة أذكركم بالوصال والقربة‏.‏ أو‏:‏ فاذكروني بالتوبة أذكركم بغفران الحوبة، أو‏:‏ فاذكروني بالدعاء أذكركم بالعطاء، أو‏:‏ فاذكروني بالسؤال أذكركم بالنوال، إلى غير ذلك مما لا ينحصر‏.‏

واعلم أن الذكر ثلاثة أنواع‏:‏ ذكر اللسان فقط وهو ذكر الغافلين، وذكر اللسان والقلب وهو ذكر السائرين، وذكر القلب فقط، وهو ذكر الواصلين، والذكر هو أفضل الأعمال كما تقتضيه الأحاديث النبوية والآيات القرآنية، وهو أقرب الطرق الموصلة إلى الله تعالى، إذا كان بشيخ كامل، واعلم أن الذكر على أنواع كثيرة من تهليل وتكبير وتسبيح وحَمْدَلَةٍ وحَسْبَلَةٍ وحوقلة وصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكلِّ خاصيةٌ وثمرة، وتجتمع في ذكر المفرد، وهو‏:‏ الله، الله‏.‏

فإن ثمرته الفناء في الذات، وهي الغاية والمنتهى‏.‏ انظر ابن جزي‏.‏

قال الحقّ تعالى‏:‏ واشكروا لي ما أوليتكم من إحساني وبرّي بأن تنسبوها لي لا لغيري، ولا تجحدوا إحساني فأسلبكم ما خولتكم من إنعامي‏.‏

الإشارة‏:‏ كما أنعم الله على الأمة المحمدية بأن بعث فيهم رسولاً منهم يعلمهم الشرعية النبوية، ويطهرهم من شهود الغيرية، ويعلمهم العلوم اللدنية، كذلك منَّ الله تعالى على عباده من هذه الأمة في كل زمان، ببعث شيوخ التربية يطهرون الناس من العيوب، ويدخلونهم حضرة الغيوب، ويطلعونهم على شهود القدرة الأزلية والحكمة الإلهية، ويعلمهم من غرائب العلوم، ويفتح لهم مخازن الفهوم، فَيَطَّلعون على السر المصون، ويعلمون ما لم يكونوا يعلمون، فيقول لهم الحقّ جلّ جلاله‏:‏ اذكروني بأرواحكم وأسراركم، أذكركم بالغيبة عن رؤية أشباحكم، اذكروني بالفكرة والنظرة أمتعكم بدوام شهود الحضرة، واشكروا لي آلائي وبرّي، ولا تكفروا بالركون إلى غيري فإني أسلبكم من مزيد معوني ونصري‏.‏

ولمّا أمر عباده بالشكر أمرهم بمقام الصبر لأنه أخوه في ضده؛ إذ الشكر في النعمة والصبر في البلية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏153- 157‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏153‏)‏ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ‏(‏154‏)‏ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ‏(‏155‏)‏ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ‏(‏156‏)‏ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أحياء‏}‏ و‏{‏أموات‏}‏ خبران عن مبتدأ مضمر، والابتلاء هو الاختبار، حيثما ورد في القرآن، ومعناه في حقه تعالى‏:‏ أنه يظهر في الوجود ما في علمه لتقوم الحجة على العبد، وليس كاختبار الناس بعضهم بعضاً؛ لأن الله علم ما كان وما يكون، والصلاة هنا المغفرة والتطهير، والرحمة‏:‏ اللطف والإحسان‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا استعينوا‏}‏ على نيل رضواني وبرِّي وإحساني ‏{‏بالصبر‏}‏ على مشاق الطاعات وترك المعاصي والهفوات، وبالصلاة التي هي أم العبادات، ومحل المناجاة ومعدن المصافاة، فيها تشرق شوارق الأنوار، وتتسع ميادين الأسرار، وهي معراج أرواح المؤمنين ومناجاة رب العالمين، فإن تجرعتم مرارة الصبر فإن ‏{‏الله مع الصابرين‏}‏، وأعظم مواطن الصبر عند مفارقة الأحباب، وذهاب العشائر والأصحاب، فإن كان موتهم في الجهاد فلا ينبغي لأجلهم أسف ولا نكاد؛ لأنهم ‏{‏أحياء عند ربهم يرزقون‏}‏، وكذلك من ألحق بهم من ذي هَدْم وغَرَق وحرق ونفاسٍ وطاعون، فلا تقولوا لمن يقتل ‏{‏في سبيل الله‏}‏ من هؤلاء‏:‏ هم ‏{‏أموات‏}‏، ‏{‏بل‏}‏ هم ‏{‏أحياء‏}‏ حياة روحانية لا بشرية، ‏{‏ولكن لا تشعرون‏}‏ بحياتهم لأنهم مجرد أرواح، وأنتم لبستم طلسم الأشباح، فاختفى عنكم مقام الأرواح، وكذلك أرواح المؤمنين كلهم أحياء‏.‏

وإنما خصّ الشهداء لمزيد بهجة وكرامة‏.‏ وإجراء رزقهم عليهم دون غيرهم، ففي الحديث‏:‏ «أرْواحُ الشُّهَداءِ في حَواصِل طَيرٍ خضرٍ تَعَلقُ مِنْ وَرَقِ الجَنة» أي‏:‏ تأكل، وفي حديث آخر‏:‏ «يَخْلُقُ اللهُ الشهداءَ جُسوماً على صُورةٍ طيرٍ خُضرٍ، فتكونُ في حَواصِلهَا، فَتسْرحُ بِها في الجَنة، وتأكلُ مِنْ ثمارِها، وتنالُ مِنْ خَيراتِها ونَعِيمها، حتى تُحشرَ مِنها يومَ القِيامَةِ»‏.‏

ولا يدخل الجنة أحد غيرهم إلى ميقاتها إلا الصدِّيقون، وهم العارفون، فهم أعظم من الجميع؛ لمزيد تصرف وإدراك وسعة روح وريحان، وتحقق شهود وعيان، فهم في نعيم الجنان كالشهداء، لكن الصديقين غير محصورين في حواصل الطيور، بل لهم هياكل وصور سرحوا بها حيث شاءوا‏.‏ وكذلك من فوقهم من الأنبياء والرسل، والله تعالى أعلم‏.‏

ثم قال الحق جلّ جلاله‏:‏ ولنختبركم يا معشر المسلمين ‏{‏بشيء‏}‏ قليل ‏{‏من الخوف‏}‏ لهيجان العدو وصولة الكفار، ‏{‏والجوع‏}‏ لغلاء الأسعار وقلة الثمار، ‏{‏ونقص من الأموال‏}‏ بموت الحيوان وتعذر التجارة أو الخسران، ‏{‏والأنفس‏}‏ بالموت في الجهاد، ‏{‏والثمرات‏}‏ بذهابها بالجوائح‏.‏

وعن الشافعي رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏الخوفُ خوفُ الله، والجوعُ صومُ رمضان، والنقصُ من الأموال بالزكوات والصدقات، ومن الأنفسُ بالأمراض، ومن الثمرات مَوتُ الأولاد‏)‏‏.‏

وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا ماتَ ولَدُ العبد قال اللّهَ للملائكةِ‏:‏ أقَبَضْتُمْ ولَدَ عَبدي‏؟‏ فيقولون‏:‏ نَعَم‏.‏ فيقولُ اللّهُ تعالى‏:‏ أقبضتم ثمرة قلبه‏؟‏ فيقولون‏:‏ نعم‏.‏ فيقول اللّهُ تعالى‏:‏ ماذا قال‏؟‏ فيقولون‏:‏ حَمِدَك واستَرْجَع، فيقول الله تعالى‏:‏ ابْنُوا لعَبْدِي بَيْتاً في الجَنَّةِ وسَمُّوه بَيْتَ الحمدِ»‏.‏

‏{‏وبشر الصابرين‏}‏ يا من تتأتَّى منه البشارة؛ ‏{‏الذين إذا أصباتهم مصيبة‏}‏ في بدن أو أهل أو مال أو صاحب ‏{‏قالوا إنا لله‏}‏ ملكاً وعبيداً يحكم فينا بما يريد ‏{‏وإنا إليه راجعون‏}‏ فيجازينا بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فتغيب مصائب الدنيا في جانبه‏.‏

وفي الحديث‏:‏ «من أصابته مُصيبةٌ فقال‏:‏ إنَّا لله وإنا إليه راجعُون‏.‏ اللهم أجُرْنِي في مُصيبَتِي واخْلُفْ لي خَيْراً منها، إلا أَخْلَفَ الله له خيراً مما أصابه» قالت أم سَلَمَة‏:‏ فلما ماتَ زوجي أبو سَلَمَة قلتَ ذلك، فأبدلني الله برسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏أولئك‏}‏ الصابرون الراجعون إلى الله ‏{‏عليهم صلوات‏}‏ أي‏:‏ مغفرة وتطهير ‏{‏من ربهم ورحمة‏}‏ أي‏:‏ عطف ولطف ‏{‏وأولئك هم المهتدون‏}‏ لكل خير في الدنيا والآخرة‏.‏

الإشارة‏:‏ يا أيها الذين آمنوا بطريق الخصوص استعينوا على سلوك طريق حضرتنا ومشاهدة أنوار قدسنا بالصبر على ما تكره النفوس؛ من ترك الحظوظ والشهوات، والميل إلى العادات والمألوفات، وبالصلاة الدائمة، وهي صلاة القلوب بالعكوف في حضرة الغيوب‏.‏ ‏{‏إن الله مع الصابرين‏}‏ بالمعونة والتأييد، وإشراق أنوار التوحيد، ولا تقولوا لمن ترونه قتل نفسه بالذل والافتقار، وخرق العوائد وخلع العذار‏:‏ إنه قد مات، بل هو حي لا يموت، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى‏}‏ فإذا ماتت نفس المريد‏.‏ واستوى عنده الذل والعز والمدح والذم، والغنى والفقر، والموت والحياة، فقد حييت روحه واتسع عليها فضاء الشهود، وتمتعت بالنظرة إلى الملك المعبود، فلا يزيدها الموت الحسيّ إلا اتصالاً وتمتعاً وشهوداً، فهي في الترقي أبداً سرمداً، ولكن لا تشعرون بما هم فيه في هذه الدار وفي تلك الدار‏.‏

ويقال لهم عند إرادة سلوكهم الطريق إلى عين التحقيق‏:‏ والله لنبلونكم يا معشر المريدين بشيء من إذاية الخلق وتضييق الرزق، وذهاب الأموال، وضعف الأبدان بالمجاهدة، وتأخير الفتح بظهور ثمرة المشاهدة؛ ليظهر الصادق في الطلب الثبوت في أحكام العبودية، حتى تشرق عليها أنوار الربوبية، ومن الكاذب بالرجوع إلى العوائد والشهوات، والركون إلى الرخص والتأويلات، ‏{‏وبشر الصابرين‏}‏ الثابتين في الطلب، بالظفر بكل ما أمَّلُوا، وبالوصول إلى ما إليه رحلوا، الذين إذا أصابتهم نكبة أو وقفة تحققوا بضعف العبودية، وتعلقوا بقوة الربوبية، فرجعوا إلى الله في كل شيء، فآواهم إليه من كل شيء، أولئك عليهم تَحنُّنٌ من ربهم وتقريب، وهم المهتدون إلى جوار الحبيب‏.‏

قال ابن جزي‏:‏ فائدة‏:‏ وَرَدَ ذكر الصبر في القرآن في أكثر من سبعين موضعاً؛ وذلك لعظم موقعه في الدين، قال بعض العلماء‏:‏ كل الحسنات لها أجر معلوم إلا الصبر، فإنه لا يحصر أجره؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَمَّا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏

‏[‏الزمر‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وذكر الله للصابرين ثمانياً من الكرامات‏.‏

أولها‏:‏ المحبة، قال‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عِمرَان‏:‏ 146‏]‏، والثاني‏:‏ النصر، قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 153‏]‏، والثالث‏:‏ غرفات الجنة، قال‏:‏ ‏{‏يُجْزَوْنَ الغرفة بِمَا صَبَرُواْ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 75‏]‏ والرابع‏:‏ الأجر الجزيل، قال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ والأربعة الأخرى المذكورة في هذه الآية، فمنها البشارة قال‏:‏ ‏{‏وبشر الصابرين‏}‏، والصلاة والرحمة والهداية قال‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ‏}‏‏.‏

والصبر على أربعة أوجه‏:‏ صبر على البلاء، وهو منع النفس عن التسخط والهلع والجزع، وصبر على النعم، وهو تقييدها بالشكر وعدم الطغيان والتكبّر بها، وصبر على الطاعة بالمحافظة والدوام عليها، وصبر على المعاصي بكف النفس عنها‏.‏ وفوق الصبر التسليم، وهو ترك الاعتراض والتسخط ظاهراً، وترك الكراهية باطناً، وفوق التسليم الرضا بالقضاء، وهو سرور النفس بفعل الله، وهو صادر على المحبة، وكل ما يفعل المحبوب‏.‏ ه‏.‏

ولمّا ذكر الحقّ تعالى الكعبة، وأمر بالتوجهة إليها، ناسب أن يذكر الصفا والمروة؛ لقربهما منها ومشاركتهما لها في أمر الدين، وذلك أن الصحابة تحرجوا أن يطوفوا بهما؛ لأن الصفا كان عليه صنم يقال له إِسَاف، وعلى المروة صنم يقال له نائلة، فخافوا أن يكون الطواف بينهما تعظيماً لهما، فرفع الله ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏158‏]‏

‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ‏(‏158‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏الصفا‏}‏ في أصل الوضع‏:‏ جمع صفاة، وهي الصخرة الصلبة الملساء، يقال‏:‏ صفاة وصفا، كحصاة وحصى، وقطاع وقطا، ونواة ونوى‏.‏ وقيل‏:‏ مفرد، وتثنيته‏:‏ صفوان، وجمعه‏:‏ أصفاء، و‏{‏المروة‏}‏ مَا لاَنَ من الحجارة وجمعه مرو ومروات، كتمرة وتمر وتمرات‏.‏ والمراد هنا جَبَلانِ بمكة، و‏{‏شعائر الله‏}‏‏:‏ أعلام دينه، جمع شعيرة أو شعارة، والشعيرة‏:‏ كل ما كان معلماً لقربان يتقرب به إلى الله تعالى، من دعاء أو صلاة أو أداء فرض أو ذبيحة‏.‏

والحج في اللغة‏:‏ القصد، والعمرة‏:‏ الزيارة، ثم غلباً شرعاً في العبادتين والمخصوصتين‏.‏

وقرأ الأخَوَان وخلف‏:‏ ‏{‏يَطّوعْ‏}‏ بلفظ المضارع، مجزوم اللفظ، وهو مناسب لقوله ‏{‏أن يطوف‏}‏، أصله‏:‏ يتطوع، أُدغمت التاء في الطاء لقرب المخرج، والباقون بلفظ الماضي، مجزوم المحل، وهو مناسب لقوله‏:‏ ‏{‏فمن حج البيت‏}‏‏.‏ و‏{‏الجُناح‏}‏‏:‏ الإثم، من جَنَحَ إذا مال، كأن صاحب الإثم مال عن الحق إلى الباطل، و‏{‏خيراً‏}‏‏:‏ صفة لمصدر محذوف، أو على إسقاط الخافض‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ الطواف بين ‏{‏الصفا والمروة‏}‏ من معالم دينه ومناسك حجه، ‏{‏فمن‏}‏ قصد ‏{‏البيت‏}‏ للحج أو العمرة ‏{‏فلا جناح عليه أن يطوف‏}‏ بينهما، ولا يضره الصنمان اللذان كانا عليهما في الجاهلية؛ فإن الله محا ذلك بالإسلام، ‏{‏ومن تطوع‏}‏ لله بخير من حج أو عمرة أو صلاة أو غير ذلك، ‏{‏فإن الله‏}‏ يشكر فعله ويجزل ثوابه‏.‏ واختلف في حكمه، فقال مالك والشافعي‏:‏ ركن لا يجبر بالدم، وقال أبو حنيفة‏:‏ فرض يجبر بالدم، وقال أحمد‏:‏ سنة، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ الصفا والمروة إشارة إلى الروح الصافية والنفس اللينة الطيبة، فالاعتناء بتطهيرهما وتصفيتهما من معالم الطريق، وبهما يسلك إلى عين التحقيق، فمن قصد بيت الحضرة لحج الروج بالفناء في الذات، أو عمرة النفس بالفناء في الصفات، فلا جناح عليه أن يطوف بهما؛ ويشرب من كأسهما، حتى يغيب عن حسّهما، ومن تطوّع خيراً ببذل روحه لله، والغيبة عنها في شهود مولاه، فإن الله يشكر فعله، وينشر فضله ويظهر خيره، ويتولى أمره، والله ذو الفضل العظيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏159- 162‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ‏(‏159‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏160‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏161‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏162‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الضمير في ‏{‏فيها‏}‏‏:‏ يعود على اللعنة أو النار، وإضمارها قبل الذكر تفخيماً لشأنها، وتهويلاً لأمرها‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله في شأن أحبار اليهود حيث كتموا صفة الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إن الذين يكتمون‏}‏ ما أنزلناه عليهم في كتابهم من صفة محمد- عليه الصلاة والسلام- من الآيات لاواضحات في شأنه، وبيان صفته وبلده وشريعته، وما يهدي إلى وجوب اتباعه، والإيمان به، ‏{‏من بعد ما بيناه للناس‏}‏ في التوراة، ‏{‏أولئك‏}‏ الكاتمون ‏{‏يلعنهم الله‏}‏ ويطردهم عن ساحة رحمته، ‏{‏ويلعنهم‏}‏ الجن والإنس، وكل ما يتأتيى منه اللعن كالملائكة وغيرهم‏.‏ ‏{‏إلا الذين تابوا‏}‏ من الكتمان، وكل ما يجب أن يتاب منه، ‏{‏وأصلحوا‏}‏ ما أفسدوا من الدين بالتدارك، ‏{‏وبينوا‏}‏ ما كتموا ‏{‏فأولئك أتوب عليهم‏}‏ وأرحمهم ‏{‏وأنا التّواب الرحيم‏}‏ أي‏:‏ المبالغ في قبول التوبة وإفاضة الرحمة، وأما من مات على الكفر ولم يتب فأولئك ‏{‏عليهم لعنة الله‏}‏، ومن يُعْتَدّ بلعنته من ‏{‏الملائكة والناس أجمعين‏}‏ خالدين في اللعنة أو في النار ‏{‏لا يخفف عنهم العذاب‏}‏ ساعة، ولا هم يمهلون عنه، أو لا ينتظرون للاعتذار أو الفداء‏.‏

الإشارة‏:‏ ما قيل في أحبار اليهود يقال مثله في علماء السوء من هذه الأمة، الذين ملكتهم جيفة الدنيا، وأسرهم الهوى، الذين يقبضون الرّشَا على الأحكام، فيكتمون المشهور الواضح، ويحكمون بشهوة أنفسهم، فأولئك يلعنهم اللاعنون، وفي ذلك يقول ابن المبارك- رحمه الله-‏:‏

وهل أَفْسَدَ الدينَ إلا الملوكُ *** وأحْبَارُ سُوءٍ ورُهْبَانُهَا

وباعُوا النفوسَ ولم يَرْبَحُوا *** ولم تغْلُ في البَيْع أثْمَانُهَا

لقدْ رتعَ القومُ في جِيفَةٍ *** يَبِينُ لذِي العَقْلِ إنْتَانُهَا

وكان يحيى بن معاذ الرازي رضي الله عنه يقول لعلماء وقته‏:‏ ‏(‏يا معْشرَ العلماء، ديارُكم هَامَانيَّة، وملابِسُكُم قَارُونية، ومَرَاكِبُكُم فرعونية وولائمُكُمْ جالوتية، فأين السنّةُ المحمدية‏؟‏‏)‏‏.‏ إلا مَن تاب وأصلح ما أفسد، وبيَّن ما كتم، فأولئك يتوب الله عليهم‏.‏

تنبيه‏:‏ العلم باعتبار وجوب إظهاره وكتمه على ثلاثة أقسام‏:‏

قسم يجب إظهاره، ومَنْ كَتَمَه دخل في وعيد الآية، وهو علم الشريعة الظاهرة، إذا تعيَّن على المسؤول بحيث لم يُوجَد من يُفتِي في تلك النازلة‏.‏

وقسم يجب كتمه، وهو علم سرّ الربوبية، أعني التوحيدَ الخاص، فهذا لا يجوز إفشاؤه إلا لأهله، وهو من بذل نَفْسَه وفَلْسَهُ وخَرقَ عوائد نفسه، فهذا لا يحل كتمه عن إذا طلبه‏.‏

وقسم يُستحب كتمه، وهو أسرار القدَر المُغَيَّبَات، فهذا من باب الكرامات يستحب كتمها ولا يجب، والله تعالى أعلم‏.‏

هنا انتهى العتاب لبني إسرائل والكلام معهم، وابتداؤه من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏، وإنما تخلَّل الكلامَ ذكرُ إبراهيم وبنيه توطئةً لنسخ القبلة الذي أنركوه، فذكر بناء الكعبة وبيان شرفها، وانجزَّ الكلام إلى ذكر الصفا والمروة لقرب المناسبة والجوار‏.‏ فلما فرغ من عتابهم دلَّهم على التوحيد، وشاركهم في ذلك غيرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏163- 164‏]‏

‏{‏وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ‏(‏163‏)‏ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏164‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏إلهكم إله واحد‏}‏ مبتدأ وخبر، وجملة ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏‏:‏ تقرير لها وتأكيد، و‏{‏الرحمان الرحيم‏}‏‏:‏ خبران آخران، أو عن مبتدأ مضمر، وأنث ‏{‏الفلك‏}‏ لأنه بمعنى السفينة، و‏{‏من السماء‏}‏ ابتدائية، و‏{‏من ماء‏}‏ بيانية، و‏{‏بث‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏أنزل‏}‏ أو ‏{‏أحيا‏}‏ لأن الحيوانات تنمو بنزول المطر والخصب، والبث‏:‏ النشر والتفريق و‏{‏تصريف الريح‏}‏‏:‏ هبوبها من الجهات المختلفة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإلهكم‏}‏ يا معشر العباد الذي يستحق أن يعبد ‏{‏إله واحد‏}‏ لا شريك له، ولا نظير، ولا ضد له ولا ند، ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏، إذ لا يستحق العبادة غيره، إذ هو ‏{‏الرحمن‏}‏ بنعمة الإيجاد ‏{‏الرحيم‏}‏ بنعمة الإمداد، فكل ما سواء مُكونٌ مخلوق، إما مُنْعَم عليه أو نعمة، فلم يستحق العبادة غيره‏.‏

ثم برهن على وجوده، وثبوت وحدانيته بثمانية أمور، فقال‏:‏ ‏{‏إن في خلق السماوات‏}‏ طباقاً متفاصلة مرفوعة بغير عمد، وما اشتملت عليه من الكواكب والبروج والمنازل، وفي ‏{‏الأرض‏}‏ وما اشتملت عليه من الجبال والبحار والأنهار والأشجار وأنواع الثمار، وفي ‏{‏اختلاف الليل والنهار‏}‏ بالطول القصَر، أو تعاقبها بالذهاب والمجيء، ‏{‏و‏}‏ في ‏{‏الفلك التي تجري في البحر‏}‏ بقدرته مع إمكان رسوبها إلى الأسفل، متلبسة ‏{‏بما ينفع الناس‏}‏ من التجارة وغيرها‏.‏ وقال البيضاوي‏:‏ القصد بالاستدلال بالبحر وأحواله، وتخصيص الفلك بالذكر لأنه سبب الخوض فيه والاطلاع على عجائبه؛ ولذلك قَدَّمه على ذكر المطر والسحاب، لأن منشأهما منه في الغالب‏.‏ ه‏.‏

‏{‏و‏}‏ في ‏{‏ما أنزل الله من السماء من ماء‏}‏ من غير ظهور مادة سابقة، بل تُبرزه القدرة من عالم الغيب قريب عهد بالله، ولذلك ‏(‏كان عليه الصلاة والسلام يَتَمَطَّر‏)‏ أي‏:‏ يَنْصُبُ وجهه للمطر إذا نزل تبركاً به، ‏{‏فأحيا‏}‏ الحقّ تعالى بذلك المطر ‏{‏الأرض بعد موتها‏}‏ ويُبْسِها، بالنبات والأزهار وأصناف النّوار والثمار، وفيما نشر ‏{‏فيها من كل دابة‏}‏ من النملة إلى الفيلة، ‏{‏و‏}‏ في ‏{‏تصريف الرياح‏}‏ وهبوبها من جهات مختلفة، وهي الجهات الأربع وما بينها بصفات مختلفة، مُلَقِّحَةٍ للشجر وعقيم وصرِ، وللنصر والهلاك ‏{‏و‏}‏ في ‏{‏السحاب المسخر‏}‏ أي‏:‏ المذلَّل ‏{‏بين السماء والأرض‏}‏ لا يسقط ولا يرتفع، مع أن الطبع يقتضي أحدهما، أو مسخر للرياح تُقَلِّبه في جو السماء بمشيئة الله ‏{‏لآيات لقوم يعقلون‏}‏‏.‏ أي‏:‏ تلك المخلوقات آيات دالّة على وحدانيته تعالى وباهرٍ قدرته، و‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَآ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وفي الآية حَضٍّ على التفكر، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ويلٌ لِمَنْ قَرأَ هَذهِ الآيةِ فَمَجَّ بِها»، أي‏:‏ لم يتفكر فيها دلالة على شرف علم التوحيد العام والخاص‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قال الجنيد‏:‏ ‏(‏التوحيد معنى تضْمَحِل فيه الرسوم وتندرج فيه العلوم، ويكونُ الله كما لم يزل‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا هو التوحيد الخاص، أعني توحيد أهل الشهود والعيان‏:‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏وأصولُه خمسة أشياء‏:‏ رفعُ الحدَث، وإثبات القدم، وهُجْران الإخُوان، ومفارقةُ الأوطان، ونسيان ما عَلِم وجَهِل‏)‏‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏وهجران الإخوان‏)‏، يعني‏:‏ غيرَ مَنْ يستعين بهم على السير، وأما من يستعين بهم فلا يستغني عنهم‏.‏

واعلم أن توحيد خلق الله تعالى على ثلاثة درجات‏:‏

الأولى‏:‏ توحيد العامة‏:‏ وهو الذي يعصِمُ النفس والمال، وينجو به من الخلود في النار، وهو نَفْيُ الشركاء والأنداد، والصاحبةِ والأولاد، والأشباه والأضداد‏.‏

الثانية‏:‏ توحيد الخاصة، وهو أنْ يَرى الأفعال كلها صادرة من الله وحده، ويشاهد ذلك بطريق الكشف لا بطريق الاستدلال، فإنَّ ذلك حاصل لكل مؤمن، وإنما مَقامُ الخاصة يقينٌ في القلب بعلم ضروري لا يحتاج إلى دليل، وثمرة هذا العلم الانقطاعُ إلى الله، والتوكل عليه وحده، فلا يرجوا الله، ولا يخاف أحداً سواه، إذ ليس يَرى فاعلاً إلا الله، فيَطْرَحُ الأسباب، وينبذ الأرباب‏.‏

الدرجة الثالثة‏:‏ ألا يرى في الوجود إلا الله، ولا يشهد معه سواه، فيغيبَ عن النظر إلى الأكوان في شهود المُكَوَّن، وهذا مقام الفناء، فإن رُدّ إلى شهود الأثر بالله سُمي مقام البقاء‏.‏ ه‏.‏ قال بعضَه ابنُ جُزَيّ باختصار‏.‏

قلت‏:‏ وفي التحقيق أنهما أنهما مقامان؛ مقام أهل الدليل والبرهان، وهو المذكور في الآية، لأنه هو الذي يطيقه جميع العباد، ومقام أهل الشهود والعيان، وهو خاص بالأفراد الذين بذلوا مهجهم في طلب الله، باعوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، فعوّضهم الله في الدنيا جنة المعارف، وزادهم في الآخرة جنة الزخارف‏.‏

‏(‏أهل الدليل والبرهان عمومٌ عند أهل الشهود والعيان‏)‏؛ لأن أهل الشهود والعيان قدسوا الحقّ تعالى عن أن يحتاج إلى دليل، فكيف يعرف بالمعارف من به عرفت المعارف‏؟‏ كيف يستدل عليه بما هو في وجوده مفتقر إليه‏؟‏ أيكون لغيره من الظهور ما ليس له‏؟‏- متى غاب حتى يحتاج إلى دليل عليه‏؟‏ ومتى بَعُد حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه‏؟‏- ولله در القائل‏:‏

لقد ظهرتَ فما تَخْفَى على أحدٍ *** إلا على أَكْمَهِ لا يُبْصِرُ القمرَا

لَكِنْ بَطَنْتَ بما أَظْهَرْتَ مُحْتَجِبا *** وكيفَ يُبْصَرُ مَن بالعزةِ استترَا‏؟‏

وقال آخر‏:‏

ما لِلحِجَابِ مَكَانٌ في وجُودِكُمُ *** إِلا بِسِرِّ حُروفِ ‏(‏انظُرْ إلى الجَبَلَ‏)‏

أنتُم دلَلْتُمُ عليكُم مِنكُمُ ولكُمْ *** دَيمُومَةٌ عبَّرتْ عَنْ غاَمِضِ الأزلِ

عَرَّفْتُم بكُم هذا الخبيرَ بِكُم *** أنتُمْ هُمُ يا حياةَ القلْبِ يا أمَلِي

ولما كانت المحبة تزيد وتنقص باعتبار شهود الوحدانية، فكلما قَويَ التوحيدُ في القلب قويت المحبة؛ لانحصارها في واحد، ذكرها بأثر التوحيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏165- 167‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ‏(‏165‏)‏ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ‏(‏166‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ‏(‏167‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

قلت‏:‏ ويُحتمل في وجه المناسبة، أن يكون الحق تعالى لمّا ذكر دلائل التوحيد ذكّر من أعرض بعد وضوحها فأشرك معه، ليرتب بعد ذلك ما أعدَّ له من العذاب، والأنداد‏:‏ جمع نِدْ وهو المِثْل، والمراد هنا الأصنام أو الرؤساء، والإضافة في ‏{‏كحُب الله‏}‏ من إضافة المصدر إلى مفعوله، والحُب‏:‏ ميل القلب إلى المحبوب، وسأتي في الإشارة إن شاء الله‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يتخذ من دون الله‏}‏ أشباهاً وأمثالاً من الأصنام والرؤساء ‏{‏يحبونهم‏}‏، وينقادون إليهم، كما يحبون الله تعالى، فيُسَوَّون في المحبة بين الله تعالى العلي الكبير، وبين المصنوع الذليل الحقير، ‏{‏والذين آمنوا‏}‏ بالله ووحَّدُوه ‏{‏أشد حبّاً لله‏}‏؛ لأن المؤمنين لا يلتفتون عن حبوبهم في الشدة ولا في الرخاء، بخلاف الكفار فإنهم يعبدونهم في وقت الرخاء، فإذا نزل البلاء التجؤوا إلى الله‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ‏}‏ ‏[‏النّحل‏:‏ 53‏]‏ الآية، وأيضاً‏:‏ المؤمنون يعبدون الله بلا واسطة، والكفار يعبدونه بواسطة أصنامهم ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏ وأيضاً المؤمنونن يعبدون ربّاً واحداً فاتحدت مبحتهم‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ ‏(‏إن الله تعالى يأمر يوم القيامة مَنْ عبد الأصنام أن يدخلوا النار مع أصنامهم، فيمتنعون لعلمهم بالخلود فيها، ثم يقول للمؤمنين بين يدي الكفار‏:‏ إن كنتم أحبائي فادخلوا، فيقتحم المؤمنون النار، وينادي مُنَأدٍ مِنْ تحت العرش‏:‏ ‏{‏والذين آمناو أشد حبّاً لله‏}‏‏.‏ وفي ذلك يقول ابن الفارض‏:‏

أحِبّايَ أنتُم، أحْسَنَ الدهرُ أَمَ أسَا *** فكونوا كَمَا شِئْتُم، أَنا ذلك الخِلُّ

وقال أيضاً‏:‏

لَو قالَ تِيهاً‏:‏ قِف عَلَى جَمْرِ الغَضَا *** لوقفتُ مُمْتثلاً، ولَمْ أَتَوقَّفِ

وقال آخر‏:‏

ولَو عَذَّبْتَني في النارِ حتْماً *** دخلتُ مُطاوعاً وسْطَ الجَحِيمِ

إذا كَانَ الجَحِيمُ رِضَاك عَنِّي *** فَمَا ذاكَ الجَحِيمُ سِوَى نَعِيمِ

الإشارة‏:‏ المحبةُ‏:‏ مَيلٌ دائم بقلب هائم، أو مراقبة الحبيب في المشهد والمغيب، أو مواطأةُ القلب لمراد الرب، أو خوف ترك الخدْمة مع إقامة الحُرْمة، أو اسْتِقْلالُ الكثير من نفسك واستكثارُ القليل مِنْ حبيبك، أو معانقة الطاعة ومباينة المخالفة، وقال الشِّبْلِي‏:‏ ‏(‏أن تَغَار على المحبوب أن يحبه مثلك‏)‏ والمحب على الحقيقة من لا سلطان على قلبه لغير محبوبه، ولا مشيئة له غير مشيئته، وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏المحبة أخْذَةٌ من الله لقلب عبده المؤمن عن كل شيء سواه، فترى النفس مائلة لطاعته، والعقل متحصّناً بمعروفه، والروح مأخوذة في حضرته، والسر مغموراً في مشاهدته، والعبد يستزيد من محبته فيزداد، ويفاتح بما هو أعذب من لذيذ مناجاته، فيكسي حلل التقريب على بساط القربة، ويَمَسُّ أبكارَ الحقائق وثيبات العلوم، فمن أجل ذلك قالوا‏:‏ أولياء الله عرائس، ولا يَرَى العرائسَ المجرمون‏.‏

‏.‏‏.‏‏)‏ الخ كلامه‏.‏

واعلم أن محبة العبد لمولاه سببُها شيئان‏:‏

أحدهُما‏:‏ نظر العبد لإحسان الله إليه وضروب امتنانه عليه، وجُبِلَت القلوبُ على حب من أحسن إليها، وهذا هو المسمى بحب الهوى، هو مكتسب، لأن الإنسان مغمور بإحسانات الله إليه، ومتمكن من النظر فيها، فكلما طالَع منةً مِنْ مِنَن الله التي لا تقبل الحصر ولا العدَّ، كان ذلك كحَبة زُرعت في أرض قلبه الطيب الزكي، فلا يزال يطالع مِنّةً بعد منّة، وكلُّ منّة أعظم من التي قبلها، لأنه كلما طالع المنن تنوّر قلبه وزداد إيماناً، وكشف من دقائق المنن ما لم يكن يُكشف له قبلُ، وظهر له خفايا المنن، وعظمت محبته‏.‏

الثاني‏:‏ كشْف الحجب، وإزالة الموانع عن ناظر القلب، حتى يرى جمال الحقّ وكماله، والجمال محبوب بالطبع، وهذان هما اللذان قصدت رابعة العدوية- رضي الله عنها-‏:‏

أُحِبُّكَ حُبَّين‏:‏ حُبَّ الهَوَى *** وحُبّاً لأنك أهلٌ لِذَاكَ

فأمَّالذي هو حُبُّ الهَوى *** فَشُغْلي بِذِكْرِك عمَّن سِوَاكَ

وأمَّا الذي أنتَ أهلٌ لهُ *** فكَشْفُكِ لِلْحُجْبِ حتى أراكَ

فَلا الحمدُ في ذَا ولا ذَاك لي *** ولَكِنْ لكَ الحَمْدُ في ذَا وذاكَ

وإنما خَصَّصَتْ الحُبَّ الناشئ عن شهود الجمال بالأهلية دون الأول، وإن كان أهلاً للجميع؛ لأن هذا منه إليه، لا كسب للعبد فيه، والآخر فيه كسب، وعمل العبد معلول، وقولها‏:‏ ‏(‏فشغلي بذكر عمن سواك‏)‏ من باب التعبير بالمسبب عن السبب، والأصل‏:‏ فثمرته شغلي بذكرك عمن سواك، فهو مسبب عن المحبة لأنفسنا، وقولها أيضاً ‏(‏كشفك للحجب حتى أراك‏)‏، من باب التعبير بالسبب عن المسبب، والأصل، فبسببه كشفك للحجب حتى رأيتك بعينَيْ قلبي‏.‏ وقولها‏:‏ ‏(‏فلا الحمد‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الخ، إخبار منها بأن الحُبَّيْن معاً منه وإليه وبه في الحقيقة، لا كسب لها في واحد منهما باعتبار الحقيقة، بل هو الحامد والمحمود، وإدراك التفاوت بين المقامين،- أعْني بين المحبة الناشئة عن شهود الإحسان، والناشئة عن شهود الجمال- ضروري عند كل ذائق، وأن الثانية أقوى‏.‏ قاله في شرح الشريشية‏.‏

قال ابن جُزَيّ‏:‏ اعلم أن محبة العبد لربه على درجتين؛ أحدهما‏:‏ المحبة العامة، التي لا يخلو منها كل مؤمن، وهي واجبة، والأخرى‏:‏ المحبة الخاصة التي ينفرد فيها العلماء الربَّانيون، والأولياء والأصفياء، وهي أعلى المقامات، وغاية المطلوبات، فإنَّ سائر مقامات الصالحين‏:‏ كالخوف والرجاء والتوكل، وغير ذلك، مَبْنِيَةٌ على حظوظ النفس، ألا ترى أن الخائف إنما يخاف على نفسه، والراجي إنما يرجوا منفعة نفسه، بخلاف المحبة، فإنها من أجل المحبوب فليست من المعاوضة‏.‏

واعلم أن سببَ محبةِ الله‏:‏ معرفتُه، فتقوى المحبة على قدر المعرفة، وتضعف على قدر ضعف المعرفة، فإن الموجب للمحبة أحد أمرين أو كلاهما إذا اجتمعا، ولا شك أنهما اجتمعا في حق الله تعالى على غاية الكمال؛ فالموجب الأول‏:‏ الحسن والجمال، والآخر الإحسان والإجمال، فأما الجمال فهو محبوب بالطبع، فإن الإنسان بالضرورة يجب كل ما يُستحسن، ولا جمالَ مثلُ جمال الله تعالى، في حكمته البالغة وصنائعه البديعة، وصفاته الجميلة الساطعة الأنوار، التي تَرُوق العقول وتبهج القلوب، وإنما يُدْرَك جمالُه تعالى بالبصائر لا بالأبصار‏.‏

وأما الإحسان فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وإحسان الله إلى عباده متواتر، وإنعامُه عليهم باطن وظاهر، ‏{‏وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 34‏]‏، ويكفيك أنه يُحسن إلى المطيع والعاصي، وإلا المؤمن والكافر، وكل إحسان ينبس إلى غيره فهو في الحقيقة منه وحدَه، فهو المستحق للمحبة وحده‏.‏

واعلم أن محبة الله إذا تمكنت من القلب ظهرت آثارها على الجوارح، من الجد في طاعته، والنَّشَطِ لخدمته، والحرص على مرضاته والتلذذ بمناجاته، والرضا بقضائه، والشوق إلى لقائه، والأُنْس بذكره، والاسْتِيحَاش مِنْ غيره، والفرار من الناس، والانفراد في الخلوات، وخروج الدنيا من القلب، ومحبة كل ما يحب الله، وكل من يحب الله، وإيثار الله على كل ما سواه‏.‏

قال الحارث المحاسبي‏:‏ ‏(‏المحبة ميلك إلى المحبوب بِكُلِّيتِكَ، ثم إيثارك له على نفسك ورُوحك، ثم موافقته سرّاً وجهراً، ثم علمك بتقصيرك في حبه‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ ظاهره أن المحبة أعلى من المعرفة، والتحقيق أن المعرفة أعلى من جميع المقامات؛ لأنها لا تبقى معها بقية من الحجاب أصلاً، بخلاف المحبة، فإنها تكون بقية الحجاب، ألا ترى أن المحب يستوحش من الخلق، والعارف لا يستوحش من شيء لمعرفته في كل شيء‏.‏

قال في الحِكَم‏:‏ «إنما استوحشَ العُبَّاد والزهاد من كل شيء لغيبتهم عن الله في كل شيء، ولو عرفوا الله في كل شيء ما استوحشوا من شيء»‏.‏ وأيضاً‏.‏ العارف أكمل أدباً من المحب؛ لأن المعرفة إنما تحصُل بعد كمال التهذيب والتدريب، وقد تحصل المحبة قبل كمال التهذيب، مع أن المعرفة هي غاية المحبة ونهايتها، والله تعالى أعلم‏.‏

ثم ذكر الحقّ وعيدَ مَنْ أشرك مع الله في عبادته أو محبته، بعد وضوح برهان وحدانيته، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب أَنَّ القوة للَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ ‏{‏لو‏}‏ شرطية، و‏{‏ترى‏}‏ شرطها، قرأ نافع وابن عامر ويعقوب بالخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أو لكل سامع، والباقون بالغيب وإسناده إلى الظالم، لأنه المقصود بالوعيد والتهديد، و‏{‏إذ‏}‏ ظرف للرؤية، وموضع ‏{‏يرون‏}‏ خفض بالإضافة، قرأ ابن عامر بضم الياء، على البناء للمفعول، والفاعلُ الحقيقي هو الله تعالى، بدليل ‏{‏يريهم الله‏}‏، والباقون بالفتح على البناء للفاعل، على حد‏:‏

‏{‏وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ‏}‏ ‏[‏النّحل‏:‏ 85‏]‏‏.‏ و‏{‏أن القوة‏}‏ معمول للجواب المحذوف، تعظيماً لشأنه، والتقدير‏:‏ لو ترى يا محمد، أو يا مَنْ يسمَع، الذين ظلموا حين يرون العذاب، أو يريهم الله العذاب، لرأيت أمراً فظيعاً وخَطْباً جسيماً، ولعلمت أن القوة لله جميعاً‏.‏

و ‏{‏جميعاً‏}‏ حال، أي‏:‏ أن القوة ثابتة في حال اجتماعها، وقرأ أبو جعفر ويعقوب ‏{‏إنَّ‏}‏ بالكسر في الموضعين على الاستئناف، و‏{‏إذ تبرأ‏}‏ بدل من ‏{‏إذ يرون‏}‏، والأسباب‏:‏ العهود والوُصَل التي كانت بينهم في الدنيا يتوادُّون عليها، وأصل السبب‏:‏ كل شيء يتوصل به إلى شيء، ومنه قيل للحبل الذي يُصعد به‏:‏ سبب، وللطريق‏:‏ سبب، قال الشاعر‏:‏

ومَنْ هَابَ أَسْبابَ المَنِيِّةِ يلْقَها *** ولَوْ رَامَ أسْبَابَ السماء بسُلَّم

و ‏{‏حسَرات‏}‏‏:‏ حال، إن كانت بصرية، على مذهب أهل السنّة، أو مفعول ثالث إن كانت عِلمية على مذهب المعتزلة القائلين بعدم تشخص الأعمال‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولو ترى‏}‏ يا محمد، أو كل من يتأتى منه الرؤية، حالَ ‏{‏الذين ظلموا‏}‏ باتخاذهم الأنداد والأوثان، بعد وضوح الأدلة وسُطوع البرهان، حيث ‏{‏يرون العذاب‏}‏ محيطاً بهم، والزبانيةُ تَغْلِبُهم، والنار تلتقطهم، لرأيت أمراً فظيعاً، وخطباً جسيماً، ولعلمت ‏{‏أن القوة لله جميعاً‏}‏، أو لو يرى الذين ظلموا العذاب الذي أُعِد لهم سبب شركهم، لرأوا أمراً عظيماً، وليتقنوا ‏{‏أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العذاب‏}‏‏.‏

وذلك حين يتبرأ المتبعون- وهم الرؤساء-، من الأتباع- وهم القلّة الضعفاء- والحالة أنهم ‏{‏رأوا العذاب‏}‏ الفظيع، ‏{‏وتقطعت بهم الأسباب‏}‏ أي‏:‏ أسباب المودة والوُصْلات التي كانت بينهم في الدنيا، وصارت مودتهم عداوة، ‏{‏وقال‏}‏ حينئذٍ الضعفاء ‏{‏الذين اتبعوا‏}‏ شياطينهم في الكفر والضلال‏:‏ ‏{‏لو أن لنا كَرَّة‏}‏ أي‏:‏ رجعة للدنيا ‏{‏فنتبرأ منهم‏}‏ أي‏:‏ من كبرائهم ‏{‏كما تبرءوا منا‏}‏ اليوم‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك الإبراء الفظيع ‏{‏يريهم الله أعمالهم حسرات‏}‏ ونَدَمات ‏{‏عليهم‏}‏ فيدخلون النار على سبيل الخلود، ‏{‏وما هم بخارجين من النار‏}‏‏.‏

الإشارة‏:‏ يا من أقبل على مولاه، وجعل محبة سيده بُغْيته ومُناه، فلم يُشرك في محبة حبيبه سواه، لو رأيت من ظلم نفسه باتباع هواه، وأشرك مع الله في محبته سواه، باتباع حظوظ دنياه، وذلك حين يرون ما هم فيه من الانحطاط والبعاد، وما أعد الله لأهل المحبة والوداد من الفوز بالقرب من الحبيب، ومشاهدة جمال القريب، لرأيت أمراً عظيماً وخطباً جسيماً، ولعلمت أن القوة كلها لله، قَرّبَ مَنْ شاء بفضله الأصاغر، ويقع التفريق بين الأصحاب والعشائر، إلا من اجتمعوا على محبة الحبيب، وتعاونوا على طاعة القريب المجيب، ‏{‏الأَخِلآَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏الزّخرُف‏:‏ 67‏]‏‏.‏ لا تصحب من لا يُنْهِضُك حالهُ، ولا يدلك على الله مقاله- فكل من صحب أهل الغفلة أو رَكَنَ إلى أهل الدنيا فلا بد أن يرى ذلك حسرات يوم القيامة، يوم لا ينفع الندم وقد زلّ القدم‏.‏ ولله دَرُّ صاحب العَيْنية رضي الله عنه حيث يقول‏:‏

وَقَاطِعْ مِمنْ واصَلْتَ أيامَ غَفْلةٍ *** فَمَا واصل العُذَّال إلا من مُقَاطعُ

وجَانِبْ جنابَ الأجنبي لَوَ أنَّهُ *** لقُربِ انتسابٍ في المَنَامُ مُضَاجعُ

فَلِلنْفًس مِنْ جُلاَّسهَا كُلُ نسبةٍ *** ومِنْ خُلَّةٍ للقلبِ تِلكَ الطَّبَائعُ

ولما حذَّر الحقّ تعالى من الشرك الجلي والخفي، حذَّر من متابعة المشركين في التحريم والتحليل بلا حكم شرعي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏168- 169‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏168‏)‏ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏169‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏حلالاًّ‏}‏ حال، أو مفعول به، و‏{‏طيباً‏}‏ نعت له، و‏{‏الخُطُوات‏}‏ جمع خطوة، وهي بالفتح- مصدر خطَا يَخْطُوا، وبالضم- اسم لمسافة ما بين القدمين، ويُكَسَّر على خطاً، ويُصَحَّح على خطوات، مثلث الطاء، أعني‏:‏ الضم على الإتباع، كغرفات وقربات، قال ابن مالك‏:‏

والسَّالمَ العَيْنِ الثُّلاثي اسْما أَنِلْ *** إتْبَاعَ عَيْنٍ فَاءَهُ بما شُكِلُ

والسكون على الأصل في المفرد، والفتح تخفيفاً، قال في الألفية‏:‏

وسكَّنِ التالِيَ غيرَ الفتحِ أوْ *** خفِّفْهُ بالفَتْحِ فكُلاَّ قدْ رَوَوُا

وقرئ في المواتر بالضم والإسكان، وفي الشاذِّ بالفتح‏.‏

قال الخليل‏:‏ ‏(‏خطوات الشيطان، آثاره وطرقه، يقول‏:‏ لا تقتدوا به‏)‏‏.‏ ه‏.‏ وأصل السوء‏:‏ كل ما يَسُوء صاحبه ويُحزنه‏.‏ والفحشاء‏:‏ ما قبحُ من القول والفعل، مصدر فحش كالبأساء والضراء واللأوَاء‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏الفحشاءُ‏:‏ ما فيه حد، والسوء‏:‏ ما لا حَدَّ فيه‏)‏، وقال مقاتل‏:‏ ‏(‏كل مافي القرآن من ذكر الفشحاء فإنه الزنا، إلا قوله‏:‏ ‏{‏الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ‏}‏ فإنه البخل‏)‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 268‏]‏‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ السوء والفحشاء‏:‏ ما أنكره العقل واستقبحه الشرع، والعطف لاختلاف الوصفين، فإنه سوءٌ لاغتمام العاقل، به، وفحشاء باستقباحه إياه، وقيل‏:‏ السوء يعمُ القبائح، والفحشاء ما تجاوَز الحدَّ في القبح‏.‏ ه‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس كلوا‏}‏ من جميع ما خلقنا لكم في الأرض من نباتها مما يُستطاب أكله، وحيواناتها إلا ما حرمناه عليكم، حالة كون ذلك ‏{‏حلالاً‏}‏ قد انحلَّت عنه التبِعَات، وزالت عنه الشبهات، ‏{‏طيباً‏}‏ مُستلَذاً يستلِذُّه الطبع، ويستحسنه الشرع، ‏{‏ولا تتبعوا‏}‏ طرق ‏{‏الشيطان‏}‏ فتُحَرِّموا برأيكم ما أحلَّ الله لكم، كالبَحِيرة والسائبة والوَصِيلة والحام، وبعض الحرث الذي جعلتموه للأصنام، فإن ذلك من تزيين الشيطان، وهو ‏{‏لكم عدو مبين‏}‏‏.‏ ومن شأن العدو الخِدَاع والغرور، فإنما يأمركم بما يَسُوء وجوهَكم من الذنوب، وما يُرديكم من قبائح المعاصي والعيوب، ‏{‏وأن تقولوا على الله‏}‏ ما لا علم لكم به من تحلِيل الحرام، أو تحريم الحلال، أو ادعاء الولد أو الصاحبة في جانب الكبير المتعال‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن الحق تعالى جعل للبشرية قُوتاً ونعيماً تتنعم به، وجعل للروح قوتاً ونعيماً تتلذذ به، فقُوت البشرية الطعام والشراب، ونعيمُها‏:‏ الملابس والمَناكح والمَراكب‏.‏ وقوت الروح‏:‏ اليقين والعلوم والأنوار، ونعيمها‏:‏ الشهود والاستصبار والترقي في المعارف والأسرار، فكما أن النفس تأكُل مما في الأرض حلالاً طيباً، كذلك الروح تأكل مما في الأرض حلالاً طيباً، إلا أن أكل النفس حِسّي، وأكل الروح معنوي، وهو التفكر والاعتبار، أو الشهود والاستبصار، وفي ذلك يقول المجذوب رضي الله عنه‏:‏

الخَلْقُ نَوَّارٌ *** وأنا رَعَيْتُ فيهمُ

هُمُ الحجابُ الأكبَرُ *** والمَدخَلُ فِيهم

وقال الششتري رضي الله عنه‏:‏

عَينُ الزِّحامِ هُوَ *** المَسِيرُ لِحَيّنَا

وكان شيخُ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه يقول‏:‏ ‏(‏مَن أراد أن يذوق فليذهب إلى السوق‏)‏‏.‏

وذلك لأنه مظنة الزحام، وفيه عند الأقوياء الربح التام، فيقال لهم‏:‏ يا أيها الناس الكاملون في الإنسانية؛ كلوا مما في الأرض بأرواحكم وأسراركم، شهوداً واعتباراً، حلالاً طيّباً، ولا تتبعوا خطوات الشيطان، فتقفوا مع ظواهر الأكوان، فتُحجبوا عن الشهود والعيان، فإنه لكم في صورة العدو المبين، لكنه في الحقيقة يحشوكم إلى الرسوخ والتمكين، لأنه كلما حرككم بنزغه فزعتم إلى ربكم في دفعه، حتى يمكنكم من حضرته، فإنما يأمركم بما يسوء وجوهكم ويغُم قلوبكم، من مفارقة شهود الأحباب، والوقوف مِنْ وراء الباب، وأن تقولوا على الله ما ليس بحق ولا صواب، كثبوت السَّوي، أو الالتفات إلى الهوى‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏170‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ‏(‏170‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الضمير في ‏{‏لهم‏}‏ يعود على ‏{‏من يتخذ من دونه الله أنداداً‏}‏، أو على ‏{‏الناس‏}‏، من قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس‏}‏، أو على ‏{‏اليهود‏}‏ المتقدمين قبلُ، وألفى‏:‏ بمعنى وجد، يتعدّى إلى مفعولين، وهما هنا‏:‏ ‏{‏آباءنا‏}‏ والجار والمجرور، أي‏:‏ نتبع في الدين ما وجدنا آباءنا كائنين عليه‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإذا قيل‏}‏ لهؤلاء المشركين من كفار العرب‏:‏ ‏{‏اتبعوا ما أنزل الله‏}‏ على سوله من التوحيد، وترك الأنداد له والأمثال، وتحريم الحرام وتحليل الحلال، ‏{‏قالوا بل نتبع‏}‏ ما وجدنا ‏{‏عليه آباءنا‏}‏ من عبادة الأصنام، وارتكاب المعاصي والآثام، قال الحق جلّ جلاله‏:‏ أيتبعونهم تقليداً وعَمى، ولو كان آباؤهم جهلة ‏{‏لا يعقلون شيئاً‏}‏ من الدين، ولا يتفكرون في سبيل المهتدين‏؟‏‏!‏ وقال ابن عباس- رضي الله عنهما-‏:‏ دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم اليهودَ إلى الإسلام، ورغبهم فيه، فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف‏:‏ بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، فهم كانوا خيراً وأعلم منا، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ وإذا قيل لمن أكَبَّ على دنياه، واتخذ إلهه هواه، فأشرك في محبة الله سواه‏:‏ أقلعْ عن حظوظك وهواك، وأفرد الوجهه إلى مولاك، واتبع ما أنزل الله من وجوب مخالفة الهوى ومحبة المولى، قال‏:‏ بل أتبع ما وجدتُ عليه الآباء والأجداد، وأكبَّ عليه جلُّ العباد، فيقال له‏:‏ أتتبعهم في متابعة الهوى، ولو كانوا لا يعقلون شياً من طرق الهدى‏؟‏ وقد قال- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ «لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حتى يَكُونَ هَواهُ تَبعاً لِمَا جِئتُ به» ه‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏171‏]‏

‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏171‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ومثل‏}‏ الخ، يحتمل أن يكون على حذف مضاف، أي‏:‏ مثَلُ واعظِ الذين كفروا، أو لا يحتاج إلى تقدير‏.‏ وسأتي بيانه، ونَعَقَ، كضرب، ينعق نعقاً ونعيقاً، إذا صاح وزجر‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ومثل‏}‏ واعظ ‏{‏الذين كفروا‏}‏ وداعيهم إلى الله ‏{‏كمثل‏}‏ الراعي الذي يرعَى البهائم، وينعق عليها؛ ليزجرها، أو يدعوها فإذا سمعَت النداء رفعَتْ رؤوسها ولم تعقِلْه، ثم عادت إلى مراعيها، فلا تسمع من الراعي يزجرها ‏{‏إلاَّ دعاء ونداء‏}‏، ولا تفقه ما يقول لها، كذلك الكفار المنهمكون في الكفر، إذا دعاهم أحد إلى التوحيد لا يلتفتون إليه، ولا يفقهون ما يقول لهم، كالبهائم أو أضل‏.‏

أو ‏{‏مثل الذين كفروا‏}‏ في انهماكهم في التقليد والجهل، مع مَنْ يدعوهم إلى الله ‏{‏كمثل‏}‏ بهائم الذي ينعق ويصيح عليها صاحبها فلا تسمع ‏{‏إلاَّ دعاء ونداء‏}‏ ولا تفقه ما يقول لها، أو ‏{‏مثل الذين كفروا‏}‏ في دعائهم الأصنام التي لا تسمع ولا تعقل، كمثل الناعق بغنمه، فلا ينتفع من نعيقه بشيء، غير أنه في عناء وتعب من دعائه وندائه، ثم وصفهم بالصمم والبكم والعمى مجازاً، أي‏:‏ هم ‏{‏صُم‏}‏ عن سماع الحق فلا يعقلونه، ‏{‏بُكْم‏}‏ عن النطق به، ‏{‏عُمْي‏}‏ عن النظر إلى أسبابه، أو عن الهدي فلا يبصرونه، ‏{‏فهم لا يعقلون‏}‏ شيئاً ولا يتدبرون‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا تمكن الهوى من القلوب عَزَّ دواؤه وشقّ علاجه، وعظم على الأطباء عناؤه، فالمنهمكون في الغفلة لا ينفَع فيهم التذكير، ولا ينجح فيهم التخويف والتحذير، فالواعظ لهم كالناعق بالبهائم التي لا تسمع إلا دعاء ونداء، قد أعماهم الهوى، وأصمهم عن سماع أسباب الهدي‏:‏

إنَّ الهَوَى مَا تَولَّى يُصْمِ أو يَصِمِ *** فلا يُقلع الهوى من قلوبهم إلا بسابق العناية، أو هبوب ريح الهداية، فتثير في قلوبهم خوفاً مُزْعِجاً، أو شوقاً مُقْلِقًا، أو نُوراً خارقاً ‏{‏وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 20‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏172- 173‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏172‏)‏ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏173‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ أصل اضْطُرَّ‏:‏ اضتُرِرَ، على ومن افتعل، من الضرر، أُبدلت التاء طاءً لقرب مخرج التاء من الطاء، قال في الألفية‏:‏

طا تا افْتِعَالٍ رُدَّ إثْرَ مُطْبقِ *** ثم أدغمت الراء في الراء بعد ذهاب حركتها، وقرأ أبو جعفر‏:‏ بكسر الطاء حيث وقع‏:‏ ووجهُه‏:‏ نقل حركة الراء إلى الطاء، وأصل البغي‏:‏ قصد الفساد، يقال‏:‏ بغي الجرح بغياً، إذا ترامى إلى الفساد، ومنه قيل للزنا‏:‏ بِغاء، وللزانية‏:‏ بَغِيّ، وأصل العدوان‏:‏ الظلم ومجاوزة الحد، يقال‏:‏ عَدَا يعدُوا عُدواناً وعَدْواً‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا كلوا‏}‏ من لذيذ ‏{‏طيبات ما رزقناكم‏}‏ وَقِفُو عند ما حلَّ لكم ولا تحرموا برأيكم ما أحللنا لكم، كما فعل مَنْ سَلَفَ قبلكم، ‏{‏واشكروا‏}‏ نعمة الله عليكم الظاهرة والباطنة ‏{‏إن كنتم‏}‏ تخصُّونه بعبادتكم، فقد أحلّلْنا لكم جميع ما خلقنا لكم على وجه الأرض التي تُقِلكم‏.‏

‏{‏إنما‏}‏ حرمنا ‏{‏عليكم‏}‏ ما فيه ضررُكم كالميتة لخُبْثها، ‏{‏والدم‏}‏ لأنه يقسي قلوبكم، ‏{‏ولحم الخنزير‏}‏ لأنه يُورث عدم الغيرة، وما ذكر عليه غير اسم الله، وهو الذي ‏{‏أُهِلَّ به لغير الله‏}‏ أي‏:‏ رُفع الصوت عند ذبحه لغير الله، وهو الصنم ‏{‏فمن اضطر‏}‏ وألجىء إلى شيء من هذه المحرمات، ‏{‏غير باغ‏}‏ أي‏:‏ ظالم بأكلها اختياراً، ‏{‏ولا عاد‏}‏ متعدّ بتعدى الحلالَ إلى الحرام، فيأكلها وهو غني عنها ‏{‏فلا إثم عليه‏}‏، ‏{‏أو غير باغ‏}‏ غير قاطع للطريق، ‏{‏ولا عاد‏}‏‏:‏ مفارقة للأمة خارج عن الجماعة، فمن خرج يقطع الرحم، أو يُخيف ابنَ السبيل، أو يُفسد في الأرض، أو أَبَق من سيده، أو فرَّ من غريمه أو عاصياً بسفره، واضطر إلى شيء من هذه، فلا تحلُّ له حتى يتوب ويأكل، ‏{‏فإن الله غفور رحيم‏}‏‏.‏ وقال سهل بن عبد الله‏:‏ ‏{‏غير باغ‏}‏‏:‏ غير مفارق للجماعة ‏{‏ولا عاد‏}‏‏:‏ مبتدع مخالف للسنّة، فلم يرخص للمبتدع تناول المحرمات عند الضرورات‏.‏

الإشارة‏:‏ يا أيها الذين آمنوا إيمانَ أهل العِرْفان، كلوا من طيبات ما رزقناكم من حلاوة الشهود والعيان، واشكروا الله الكريم المنَّان، إن كنتم تخصونه بالعبادة والإحسان أو‏:‏ يا أيها الذين آمنوا إيمانَ أهل الصفاء، ووقفوا مع الحدود ووقوف أهل الوفاء، كلوا من طيبات ما رزقناكم من ثمرات بساتين العلوم، واشكروا لله يزدكم من المواهب والفهوم، إن كنتم تعبدون الحيّ القيوم، إنما حرم عليكم ما يعوقكم عن هذه المواهب، أو ينزلكم عن منابر تلك المراتب، كالميل إلى جيفة الدنيا، أو الركون إلى متابعة الهوى، أو تأخذون منها ما قُصد به غيرُ الله، أو تقبضونها من يد غير الله، فمن اضطر إلى أخذ شيء من نجاستها، فأخَذَ القدر الذي احتاج إليه منها، دون التشوُّف إلى ما زاد عليه، غير قاصد بذلك شهوة ولا متعة، ثم إثم عليه، إن الله غفور رحيم‏.‏

قال شيخ شيوخنا سيدي علي الجَمَل رضي الله عنه لما تكلم على الغَنِيَّ بالله، قال‏:‏ ‏(‏علامته هو الذي ترك الدنيا للخلق، حتى لا يكون له فيها حق معهم، إلا ما فَضَل عنهم من بعد اضطراره واحتياجه، ويترك الآخرة لمولاه، حتى لا يكون له فيها حق إلا النظر في وجه الله، ويترك أيضاً نفسه لله حتى لا يكون فيها حق إلا حق مولاه، ولا إرادة له إلا ما أراد مولاه، ويكون كالغصن الرطب أينما مالت به الريح يلين ويميل معها، ولا ينكر على الخلق حالاً من أحوالهم‏)‏‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏174- 176‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏174‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ‏(‏175‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏176‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ما‏}‏ تعجبية، مبتدأ، وهي نكرة، وسوَّغَ الابتداء َ معنى التعجب، وجملة ‏{‏أصبرهم‏}‏ خبر، أي‏:‏ أيُّ شيء عظيم صيَّرهم صابرين، أو استفهامية، أي‏:‏ أيُّ شيء حملهم على الصبر على النار‏؟‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في رؤساء اليهود وعلمائهم، كانوا يُصيبون من سفلتهم الهدايا والخَرَاج، ويدَّعون أن النبيّ المبعوث منهم، فلما بُعِثَ نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم خافوا ذهاب مأكلتهم ورئاستهم، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏إن الذين يكتمون ما أنزل الله‏}‏ في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، ويحرفونها في المعنى ويَنْزِعُونها ‏{‏من الكتاب‏}‏ أي‏:‏ التوراة، ‏{‏ويشترون‏}‏ بذلك التحريف ‏{‏ثمناً قليلاً‏}‏ أي‏:‏ عِوَضاً حقيراً يذهب ويفنَى في زمان قليل ‏{‏أولئك‏}‏ الذين يكتمون ويأكلون ذلك العوض الحقير- ‏{‏ما يأكلون في بطونهم‏}‏ إلا نار جهنم؛ لأنهم مآلهم وعقوبة أكلهم، ‏{‏ولا يكلمهم الله‏}‏ إهانة وغضباً عليهم حين يُكلم أولياءه ويُسلم عيلهم، ‏{‏ولا يزكيهم‏}‏ أي‏:‏ لا يطهرهم من دنَس ذنوبهم حتى يتأهلون للحضرة، ‏{‏ولهم عذاب أليم‏}‏ مُوجع‏.‏ ‏{‏أولئك الذين‏}‏ استبدلوا ‏{‏الضلالة بالهدى‏}‏ أي‏:‏ باعوا الهدى واشتروا به الضلالة، واستبدلوا ‏{‏العذاب بالمغفرة‏}‏ التي كانت لهم لو آمنوا وبيّنوا، فما أجرأهم على اقتحام النار باقتحام أسبابها، أو فما أبقاهم في النار، أو ما الذي أصبرهم على النار حتى تركوا الحق ومالوا إلى الباطل‏؟‏‏!‏ استفهام توبيخي‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ العذاب الذي استحقوه وتجرءوا عليه بسبب أن ‏{‏الله‏}‏ تعالى ‏{‏نزل الكتاب‏}‏ القرآن ملتبساً ‏{‏بالحق‏}‏، فاختلفوا فيه؛ فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، ‏{‏وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد‏}‏ أي‏:‏ لفي خلاف وضلال بعيد‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من كتم علمه، ولم ينشرْه إلا في مقابلة حظ دنيوي، صَدَق عليه قولُه تعالى‏:‏ ‏{‏ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار‏}‏‏.‏ رُوِيَ أن بعض الصحابة كان يُقرئ أهل الصُّفّة، فأَهْدَى له أحدُهم قوساً، فأتى به النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله‏:‏ كنت أُعلِّمُ أهلَ الصفة فأهدى لي فلان قوساً، وقال‏:‏ هو لله، فقال له- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ «لقدْ تقلدتَ قَوسْاً مِنْ نَارِ جَهنم» أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وأمره بردِّه‏.‏ ولعل هذا من باب الورع، فأراد عليه السلام أن يرفع همة ذلك الصحابي، وإلا فقد ورد في الحديث‏:‏ «أَحَقُّ ما أَخَذْتُمْ علَيْهِ الأجرَ كتَابُ اللّهِ»‏.‏

فمن ملَكَتْه نفسه، وأسره الهوى، فقد اشترى الضلالة بالهدى، اشترى الضلالة عن طريق أولياء الله، بالهدى الذي كان له ملَكَ نفسه وهواه، وعذابَ القطيعة والحجاب، بالمغفرة والدخول مع الأحباب، فما أصبرهم على غم الحجاب وسوء الحساب، سبب ذلك اختلاف قلبه، وتفريق همه ولُبَّه، وقد قال- عليه الصلاة والسلام-‏:‏

«اقْرَءوا القُرْآنَ ما ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُبُكمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا» أو كما قال‏:‏ وسببت تفرق القلب وعدم حضوره، حبُّ الدنيا فقد قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «مَنْ كَانَت الدُّنيا هَمَّهُ فَرَّقَ اللّهُ عَلَيْه أمْرَه، وَجَعَلَ فَقْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ولَمْ يَأتِهِ مِنَ الدُّنْيا إلا من قُسِمَ لَهُ، ومن كَانَتِ الآخرةُ نيته، جَمَعَ اللّهُ عليه أمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ في قَلْبه، وأتتْهُ الدُنيَا وَهِيَ رَاِغِمةً»‏.‏

والقلب الذي اختلَف في فهم الكتاب وتشتَّت عنه في شقاق بعيد عن الحضرة؛ لأن عُنْوان صحة القلب‏:‏ جمعُه على كلام الله وتدبر خطابه والتلذذ بسماعه، وقد تقدم في أول السورة درجات القراءة‏:‏ فانظره إن شئت‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏177‏]‏

‏{‏لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ‏(‏177‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ لمّا ذكر الحقّ تعالى التوحيد وبراهينه الذي هو رأس الدين، وحذَّرَ من الشرك وفروعه، ذكر هنا بقية أركان الدين، وهي الإيمان والإسلام، ذكر في هذه الآية قواعد الإيمان وبعض قواعدِ الإسلام؛ وهي الصلاة والزكاة، ثم ذكر بعد ذلك الصيام وأحكامه، ثم ذكر الحج وأركانه، ثم ذكر الجهاد والنكاح والطلاق والعِدَّة، ثم ذكر البيوع، وما يتعلق بها من الربا، ثم الشهادات والرهَان، وبها ختم السورة‏.‏

لكن الحديث ذو شُجون، والكلام يَجُرُّ بعضُه بعضاً، فقوله‏:‏ ‏{‏ليس البر أن تولوا‏}‏‏:‏ اسم ليس وخبرها، وكلاهما مُعَرَّفَتان، الأول بأل والثاني بالإضافة، إذا التقدير‏:‏ توليةُ وجوهكم، فمن رجَّح تعريف الألف واللام‏.‏ جعل ‏{‏البر‏}‏ اسمها، و‏{‏أن تولوا‏}‏ خبرها، وبه قرأ الأكثر، ومن رجح الإضافة جعل ‏{‏البر‏}‏ خبرها مقدماً، والمصدر اسمها مؤخراً، وبه قرأ حمزة وحفص‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولكن البر‏}‏ مَنْ خَفَّفَ جعلها عاطفة الجملة، و‏{‏البر‏}‏ مبتدأ، و‏{‏من آمن‏}‏ خبر على حذف مضاف، أَيْ‏:‏ بِرُّ من آمن؛ إذ لا يُخْبَرُ بالذات عن المعنى، أو قصد المبالغة، ومن شدَّد نصب بها، لوقوعها بين جملتين، وهي استدراكية، و‏{‏على حبه‏}‏ حال من المال، و‏{‏الصابرين‏}‏ نصب على المدح، ولم يعطفه بالرفع لفضل الصبر وشرفه‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في الرد على أهل الكتاب‏:‏ ‏{‏ليس البر‏}‏ محصوراً في شأن القبلة، ‏{‏ولكن البر‏}‏ الذي ينبغي أن يُعتنى بشأنه هو الإيمان بالله، وما يجب له من الكمالات، وباليوم الآخرة وما بعده، وبالملائكة وما يجب أن يعتقد في شأنهم، والكتاب المنزل من السماء كالقرآن وغيره، ‏{‏والنبيين‏}‏ وما يجب لهم وما يستحيل في حقهم‏.‏

فالبر هو بر من اعتقد في قلبه هذه الأشياء، وأظهر على جوارحه ما يصدق صحة اعتقادها، وذلك كالاتصاف بالسخاء والكرم، فأعطى المال على محبته له، أي‏:‏ مع حبه، فقد سئل- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ «أن تَتَصَدَّقَ وأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تأمُلُ الْغِنَى وتَخشَى الفَقْر» و‏{‏آتى المال‏}‏ على حب الله، لا جزاء ولا شكوراً، فأعطى ذلك المال ذوي قرابته المحَاويج، وقدَّمهم لقوله- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ «صَدَقَتُك على المَساكينِ صَدَقَةٌ، وعَلَى ذَوِي القُربى اثنتان؛ صَدَقَةٌ وصِلَةٌ» وأعطى ‏{‏اليتامى‏}‏ لإهمالهم، وأعطى ‏{‏المساكين‏}‏ الذين أسكنهم الفقر في بيوتهم، ‏{‏وابن السبيل‏}‏ وهو المسافر الغريب، كأن الطريق وَلَدْته، أو الضيف ‏{‏والسائلين‏}‏ ألجأتهم الحاجة إلى السؤال‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «أَعْطِ السائِلَ ولو على فَرَسِه» وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هَدِيَّةُ اللّهِ إلى المؤمن السائلُ على بَابِه» وأعطى في فَكّ ‏{‏الرقاب‏}‏ من الرق أو الأسر‏.‏

‏{‏وأقام الصلاة‏}‏ المفروضة، ‏{‏وآتى الزكاة‏}‏ المعلومة‏.‏ ومن أهل البر أيضاً‏:‏ ‏{‏المُوفُون بعهدهم‏}‏ فيما بينهم وبين الله، وفيما بينهم وبين الناس ‏{‏إذا عاهدوا‏}‏ الله أو عبادة، فإذا وعدوا أنجزوا، وإذا حلفوا أو نذروا أوفوا، وإذا قالوا صدقوا، وإذا ائتمنوا أدَّوْا، وأخُصُّ من أهل البر ‏{‏الصابرينَ في البأساء‏}‏ كالفقر والذل وإذاية الخلق، و‏{‏الضراء‏}‏ كالمرض والزَّمَانة، أو ‏{‏البأساء‏}‏‏:‏ الأهوال، و‏{‏الضراء‏}‏ في الأنفس، والصابرين ‏{‏حين البأس‏}‏ أي‏:‏ الحرب والجهاد، ‏{‏أولئك الذين صدقوا‏}‏ في طلب الحق، ‏{‏وأولئك هم المتقون‏}‏ لكل ما يقطع عن الحق، أو يشغل عنه‏.‏

فقد اشتملت هذه الآية على كمالات الإنسان بأسرها؛ لاشتمالها على ما يَزِين البواطنَ من الاعتقادات وما يزين الظواهر من المعاملات، وما يُزَكِّي النفوس من الرذائل ويُحَلِّيها بالمحاسن والكمالات‏.‏ ولذلك وُصف المتصف بها بالصدق والتقى، اللذين هما أساسُ الطريقة ومبنَى أسرار التحقيق، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

الإشارة‏:‏ ليس المطلوب من العبد أن يَتَوجَّه إلى الحق بجِهَةٍ مخصوصة، كما إذا توجه إليه بالظاهر وأهملَ الباطن، أو توجه بالباطن وأهمل الظاهر، ولكن المطلوب منه أن يُزين باطنه بأنوار الإيمان واليقين، ويزين ظاهره بسائر وظائف الدين، ويزكي نفسه من الرذائل؛ كالشح والبخل والغش والخيانة والكذب والخَوْف والجزَع، ويحليها بأنواع الفضائل؛ كالسخاء والكرم والوفاء بالعهد والأمانة، والصبر والشجاعة، والعفة والقناعة، وسائر أنواع الفضائل، فإذا تخلّى عن الرذائل وتحلّى بأضدادها من الفضائل استحق الدخول مع الأبرار، وكان من العارفين الكبار، أولئك الذين ظفروا بصدق الطلب فنالوا الغاية من كل مطلب، وأولئك هم المتقون حق التقاة، فنالُوه أعلى الدرجات، منحنا الله من ذلك الحظ الوافر بمنِّه وكرمه‏.‏